فقد ساهمت المرأة في الكفاح الفكري والسياسي، وتحمّلت التعذيب والقتل
والهجرة وصنوف المعاناة كلّها والإرهاب الفكري والسياسي والجبروت، وأعلنت
رأيها بحريّة، وانضمّت الى الدعوة الإلهية رغم ما أصابها من خسارة السلطة
والجاه والمال، ولحوق المطاردة والقتل والتشريد والإرهاب بها، فها هي مريم اُمّ المسيح التي عظّمها القرآن كما عظّمها نبيّ الإسلام محمّد (صلى الله عليه وسلم).
آيات عديدة على هذه المرأة النموذج وهو يقدِّمها مثلاً أعلى للرّجال، كما
يقدِّمها مثلاً أعلى للنّساء ليقتدى بسلوكها واستقامة فكرها وشخصيّتها.
والذي يدرس تأريخ
المرأة في الدعوة الإلهية، يجدها جهة للخطاب كما هو الرّجل، من غير أن
يفرِّق الخطاب الإلهي بينهما بسبب الذكورة والأُنوثة.
وبدراسة عيّنات تأريخية من حياة النساء
في مسار الدعوة الالهية، نستطيع أن نفهم الموقع الرائد والفعّال الذي شغلته
المرأة في حياة الأنبياء ودعواتهم، فتتجلّى قيمة المرأة في المجتمع
الإسلامي، ومشاركتها الفكرية والسياسية، وحقوقها الإنسانية والقانونية.
نقرأ هذه المشاركة المتقدِّمة والواسعة عندما نقرأ قصّة كفاح أبي الأنبياء إبراهيم (عليه السلام) ضدّ قومه في بابل، في أرض العراق، ومصارعته النمرود،
ذلك الصراع الذي انتهى بنجاة إبراهيم (عليه السلام) من النار بمعجزة الهية
تفوق تصوّرات العقل المادي، ممّا دعاه الى الهجرة الى بلاد الشام، فكانت
سارة زوجته والمؤمنة بدعوته رفيقة جهاده، وصاحبته في هجرته الى الشام، ثمّ
الى مصر، ليعودا مرّة أخرى الى الشام فيستقرا هناك.
وليبدأ فصل من أعظم فصول تاريخ الإنسان
على يد النبيّ إبراهيم (عليه السلام) تسانده زوجه سارة، وتقف الى جنبه في
جهاده ومعاناته وهجرته.
ويتحدّث القرآن عن قصّة الهجرة والحياة
الأسرية هذه، كما يتحدّث عن دور هاجر الزوجة الثانية لإبراهيم (عليه
السلام) ومشاركتها في كتابة الفصل المضيء من تاريخ الإنسان في أرض الحجاز،
في مكّة المكرّمة، حيث جاء بها من مصر.
لقد كانت قصّة هذه المرأة من أشهر قصص
التاريخ، وأكثرها غرابة، وأعظمها كفاحاً وصبراً، فتألّقت في سماء التأريخ
من خلال احتضان ابنها النبيّ اسماعيل، في واد غير ذي زرع عند البيت
المحرّم، ليكون أباً لاعظم نبيّ في تأريخ البشرية، وهو محمّد (صلى الله
عليه وسلم)، ويسجِّل القرآن تلك الحوادث بقوله : {ربِّ إنِّي أسكنتُ مِن
ذريّتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم} .. ابراهيم 37.
ويتحدّث القرآن عن اُمّ موسى (عليه
السلام) وتلقّيها للتلقين والتوجيه الإلهي الذي اُلقي في نفسها، لتحفظ موسى
(عليه السلام) من ظلم فرعون، وتكريمها العظيم بإعادته (عليه السلام) لها؛
لتكون اُمّ النبيّ المنقذ، الذي حطّم بمساعدة الهية أعظم طاغوت في تأريخ
البشرية.
يعرضها القرآن محوراً أساسياً في صنع هذه الحوادث، ثمّ يتحدّث عن زوجة فرعون (آسيا) وعن مريم اُم المسيح عيسى (عليها السلام) ويعرضهما نموذجاً ومثلاً أعلى لأجيال البشرية، بقوله : {وضربَ
اللهُ مثلاً للّذينَ آمنوا امرأةَ فرعون إذ قالت ربِّ ابن لي عندكَ بيتاً
في الجنّةِ ونجِّني من فرعونَ وعمله ونجِّني من القوم الظالمين * ومريم
ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربِّها
وكتبه وكانت من القانتين} التحريم11 ـ 12.
لنقرأ هاتين الآيتين، ولنتأمّل
بمحتواهما الفكري الرائع الذي تحدّث عن شخصية المرأة بإجلال واحترام، ليس
بوسع أيّة حضارة ماديّة أن تمنحهما لها . فقد قدّم القرآن المرأة الصالحة
مثلاً عمليّاً للرِّجال والنِّساء، وطالبهم بالاقتداء بها . جاء ذلك في
قوله : {وضرب الله مثلاً للّذين آمنوا} انّ عبارتي {ضرب الله مثلاً}
و{للّذين آمنوا} كما هي واضحة، تبرزان لنا مفهوماً حضارياً إيمانياً فريداً
في عالم الفكر والحضارة الخاص بالمرأة الصالحة؛ فقد جعلها مثلاً أعلى،
وقدوة للرّجال، كما هي قدوة النساء في العقيدة والموقف الاجتماعي والسياسي.
فعرض نموذجين لسموّ
شخصيّة المرأة المؤمنة ومكانتها في الفكر الإسلامي. عرض امرأة فرعون، ملكة
مصر، وسيِّدة التاج والبلاط والسلطة والسياسة والدولة الكبرى في ذلك
العالم،التي تحدّت السلطة،ومريم ابنة عمران التي تحدّت كبرياء بني اسرائيل
وتآمرهم،وحربهم الدعائيّة ضدّها.
وكما كان للمرأة دورها في حياة ابراهيم
وموسى وعيسى، نجد دورها واضحاً وعظيماً في حياة النبيّ محمّد (صلى الله
عليه وسلم) ودعوته؛ فلقد جسّدت هذا الدّور العقيدي الفريد خديجة بنت خويلد القرشيّة (رضي الله عنها) التي كانت سيِّدة مجتمع مرموقة في مكّة المكرّمة، وثريّة صاحبة مال وثروة وتجارة ورأي
لقد كانت أوّل من حدّثها النبيّ (صلى
الله عليه وسلم) ـ بعد عليّ (عليه السلام) ـ بدعوته، فآمنت به وصدّقته،
وبذلت أموالها الطائلة لنصرة دعوته، ولاقت معه صنوف الأذى والاضطهاد على
امتداد عشر سنوات من حياتها المقدّسة، ودخلت معه الشِّعب، وتحمّلت معاناة
الحصار الذي دام ثلاث سنوات، فكانت من أعظم الشخصيات في تاريخ الإسلام؛ لذا
سمّى رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) العام الذي توفِّيت فيه عام الحزن.
ويُعظِّم المسلمون
هذه الشخصية تعظيماً فريداً، ويقتدون بسلوكها ومواقفها الكريمة تلك . وفي
حوار له مع زوجه عائشة حول شخصيّة خديجة ردّ عليها قائلاً : (ما أبدلني
الله خيراً منها، كانت اُمّ العيال، وربّة البيت، آمنت بي حين كذّبني
النّاس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورُزِقتُ منها الولد، وحُرِمتُ من
غيرها). ويتحدّث عنها مرّة أخرى فيقول: (إنِّي لاحبُّ حبيبها).
وكما تحدّث عن موقعها في نفسه، وحركة
دعوته، ومسار رسالته، تحدّث عن ابنته فاطمة الزّهراء (عليها السلام)، فقال:
(فاطمة بضعة منِّي، يؤذيني ما آذاها). وسُئل مرّة : (يا رسول الله أيّ
أهلك أحبّ إليك ؟ قال : فاطمة بنت محمّد...).
من هذه النصوص نفهم مقام المرأة
وشخصيّتها في حياة النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ودعوته، والموقف النبويّ
هذا يمثِّل في المفهوم الإسلامي أرقى تقييم لمكانة المرأة الإنسانية،
واحترام شخصيّتها .
ولعلّنا نكتشف من خلال البيان
القرآنيّ والتاريخي الموجز هذا أنّ المرأة في مفهوم القرآن والرسالة
الإلهية هي حاضنة عظماء الأنبياء (عليهم السلام)، والمكلّفة بحفظهم،
والعناية بهم، والوقوف الى جنبهم، تجسّد ذلك جليّاً في حياة ابراهيم وموسى
واسماعيل وعيسى ومحمّد (صلى الله عليه وسلم )، أعاظم الأنبياء والمرسلين
(عليهم السلام) ، وقادة الفكر والإصلاح والحضارة الإلهية على هذه الأرض.
ولقد سجّل القرآن دور المرأة في حياة
النبيّ (صلى الله عليه وسلم) ودعوته ومشاركتها له في الهجرة والجهاد
مقروناً بدور الرّجل عند حديثه عن الهجرة والبيعة والدعوة والولاء،
واستحقاق الاجر والمقام الكريم وعلاقة الرّجل بالمرأة... الخ في مئات
الآيات من بيانه وحديثه في هذه الموضوعات.
مثل قوله تعالى : {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}.. التوبة 71 ، {ربِّ اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات ولا تُزِد الظّالمين إلاّ تبارا} .. نوح 28 ، {يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم} .. الحديد 12.
في هذه الآيات يرفع القرآن المرأة الى
أكرم مقام يمكن أن يحتلّه انسان في الدنيا والآخرة، وهو يتعامل معها كما
يتعامل مع صنوها الرّجل على حدٍّ سواء، فهي والرّجل في مفهوم الرسالة
الإسلامية (أولياء) يوالي بعضهم بعضاً، ولاءً عقائديّاً، يقومون بإصلاح
المجتمع، ومحاربة الفساد والجريمة والانحطاط، ويحملون رسالة الخير والسلام
والأعمار في الأرض.
وفي الآية الثانية يتوجّه النبيّ نوح
(عليه الصلاة والسلام) إلى ربِّه بالدعاء للمؤمنات، كما يتوجّه اليه سبحانه
بالدعاء للمؤمنين، ومن محتوى هذه المناجاة تشعّ مبادئ التكريم والحبّ
والاحترام للمرأة، ذلك لأنّ الدّعاء لشخص يحمل هذه المعاني كلّها.
ويتألّق مقام المرأة مضيئاً، ويشرق
مقدّساً على صفحات القرآن من خلال تصويره للمؤمنين والمؤمنات في هالة من
نور، يوم لقاء الربّ وساعة استحقاق الجزاء الذي يُقيّم فيه الإنسان من خلال
عمله وسعيه في الحياة .
وهكذا نفهم أنّ
القرآن قد منح المرأة الصالحة الحبّ والولاء، ودعا لها بالمغفرة والعفو
والرّحمة ، وأحاطها بهالة من نور، وهي المرأة التي مثالها آسية زوجة فرعون،
ومريم اُمّ المسيح، وخديجة زوج الرّسول محمّد (صلى الله عليه وسلم )
وفاطمة بنت محمّد (صلى الله عليه وسلم) .
وندرك عظمة المرأة في الرسالة الإسلامية
وفي حياة النبيّ (صلى الله عليه وسلم) بالشكل الذي يتسامى بشخصيّتها،
ويمجِّدها باحترام وتقدير، حين نعرف أنّ أوّل من استشهد في الإسلام هي
(سميّة) اُمّ الصحابيّ الجليل عمّار بن ياسر، قتلها أبو جهل أصد قادة الشرك
والرجعيّة .
فقد دفعت حياتها ثمناً لمبادئ الرسالة
الإسلامية حين بدأت المواجهة بين الإرهاب والطاغوت، وبين محمّد (صلى الله
عليه وسلم) والمستضعفين والعبيد الذين وجدوا في رسالة الإسلام المنقذ لحقوق
الإنسان، والمحرِّر من الجهل واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان .
كما سارع العديد من النساء المستضعفات
لتصديق النبيّ (صلى الله عليه وسلم ) في بدء دعوته، وتحمّلن الأذى والتعذيب
والاضطهاد، فهاجرن الى الحبشة والى المدينة المنوّرة، ونصرن الله ورسوله
(صلى الله عليه وسلم ) بكلّ ما اُوتين من قوّة .
إنّ المرأة المسلمة
لمّا تكتشف مكانتها الحقيقية في الإسلام بعد، وانّ الرّجل المسلم لمّا
يعرف مكانة المرأة في الإسلام على حقيقتها أيضاً،لذا اختلّ ميزان التعامل
والعلاقة،الذي لا يستقر إلاّ بالعودة الى مبادئ القرآن ليعرف كلّ منهم حقّه
ومكانته ومسؤوليّته تجاه الآخر وعلاقته به.
وإنّ المرأة اللاّهثة وراء سراب
الحضارة المادية الذي يخفي وراءه مستنقع السقوط والاضطهاد للمرأة، لو عرفت
ما لها في الإسلام من قيمة وحقّ وتقدير لما نادت إلاّ بالإسلام، ولعرفت أنّ
المنقذ لكرامة المرأة وحقّها هو مبادئ القرآن.
المصدر موقع تربوى