من طرف SaMeR الإثنين يوليو 04 2011, 08:58
بقية الجيش الإسلامي يُواصِلُ سيرَهُ إلىأُحدٍ:
وبعد هذا التمردِ والانسحابِ قَامَ
النَّبيُّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-ببقيةِ الجيشِ-وهم سُبعمائة
مقاتلٍ-ليواصل سيرَهُ نحو العدو، وكان معسكرُ المشركين يحول بينه وبين أحد
في مناطقَ كثيرةٍ،فقالَ:"مَنْ رجلٌ يخرجُ بنا على القومِ مِنْ كَثَبٍ- أي من قريب-من طريقٍ لا يمرُّ بنا عليهم ؟ ".تاريخ الطبري(2/61). فقال أبو خَيثَمةَ: أنا-يا رسول الله-,ثُمَّ اختارَ طَرِيقاً قَصِيْراً إلىأحدٍ يمرُّ بحَرَّةِ بني حارثة وبمزارعهم،تَارِكَاً جيشَ المشركينَ إلى الغربِ.
ومَرَّ الجيشُ في هذا الطَّريقِ بحائطِ مِرْبَع بن قَيظِي-وكان
منافقاً ضريرَ البصر-فلمَّا أحسَّ بالجيشِ,قام يحثُو الترابَ في وجوه
المسلمين،ويقول: لا أحلُّ لكَ أنْ تدخلَ حائطي,إنْ كنتَ رَسُولَ
اللهِ.فابتدره القومُ ليقتلوه،فَقَالَ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وسَلَّمَ-:" لا تقتلُوه،فهذا الأعْمَى أعمى القلبِ أعمى البصر". سيرة ابن هشام (4/11).ونَفَذَ
رسولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-حَتَّى نزلَ الشِّعْبَ مِنْ
جبلِ أحدٍ في عدوة الوادي، فعسكر بجيشِهِ مُستقبلاً المدينةَ، وجَاعِلا
ظهرَهُ إلى هضابِ جبلِ أحدٍ،وعلى هذا صارَ جيشُ العدوِّ فَاصِلاً بينَ
المسلمين وبين المدينةِ.
خطة الدفاع:
وهناك عَبَّأ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وسَلَّمَ-جيشَهُ،وهَيَّأهم صُفُوفاً للقتال،فاختار منهم فصيلةً من
الرُّماةِ الماهرين،قوامها خمسون مقاتلاً،وأعطى قيادتَها لعبدِ اللهِ بن
جُبير بن النُّعمان الأنصاريِّ الأوسيِّ البدريِّ، وأمرهم بالتمركز على
جبلٍ يقع على الضفة الشمالية من وادي قناةـ وعُرِفَ فيما بعدُ بجبلِ
الرُّماةِ ـ جنوب شرق معسكر المسلمين،على بُعد حوالي مائة وخمسين متراً من
مقرِّ الجيشِ الإسلاميِّ.
والهدفُ من ذلك هو ما أبداه رسولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وسَلَّمَ-في كلماته التي ألقاها إلى هؤلاءِ الرُّماةِ، فقد قالَ
لقائدِهم:" انضحِ الخيلَ عَنَّا بالنَّبلِ، لايأتونا مِن خلفِنا،إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك، لا نؤتينَّ مِنْ قبلك " (1). وقال للرُّماةِ:"احمُوا ظهورَنا،فإن رأيتمونا نُقتل فلا تنصرونا،وإنْ رأيتمونا قد غنمنافلا تشركونا" (2)، وفي روايةِ البخاريِّ أنه قال: " إن رأيتمونا تخطفنا الطَّيرُ,فلاتبرحُوا مكانكم هذا, حَتَّى أُرسلَ إليكم،وإن رأيتمونا هزمنا القومَ ووطأناهم,فلا تبرحُواحَتَّى أُرسلَ إليكم"(3).
بتعيين هذه الفصيلةِ في الجبلِ مع هذه الأوامرِ
العسكريةِ الشَّديدةِ سدَّ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-
الثُّلمةَ الوحيدةَ التي كانَ يُمكن لفرسان المشركين أنْ يتسللوا من
ورائِها إلى صُفُوفِ المسلمينَ،ويقومُوا بحركاتِ الالتفافِ وعمليةِ
التَّطويقِ.
أمَّا بقيةُ الجيشِ فجعل على الميمنةِ المنذرَ بنَ
عمرو،وجعل على الميسرةِ الزُّبيرَ بن العوَّام،يُسانده المقدادُ بنُ
الأسودِ،وكَانَ إلى الزُّبيرِ مهمةُ الصُّمودِ في وجه فُرسانِ خالدِ بنِ
الوليدِ،وجعل في مُقَدِّمةِ الصُّفوفِ نُخْبَةً مُمتازةً مِنْ شُجعانِ
المسلمينَ ورجالاتهم المشهورين بالنَّجدةِ والبسالة،والذين يُوزنون
بالآلافِ.
ولقد كانتْ خطةً حكيمةً ودقيقةً جداً، تتجلَّي فيها
عبقريةُ قيادةِ النَّبيّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- العسكرية، وأنه
لا يمكن لأيِّ قائدٍ مهما تقدَّمت كفاءتُهُ أنْ يضعَ خطةً أدقَّ وأحكمَ
مِنْ هَذَا؛ فقد احتلَّ أفضل موضعٍ من ميدانِ المعركةِ،مع أنه نزل فيه بعدَ
العدوِّ، فإنه حمى ظهرَهُ ويمينَهُ بارتفاعاتِ الجبلِ، وحمى ميسرتَهُ
وظهرَهُ-حين يحتدمُ القتالُ-بسدِّ الثلمةِ الوحيدةِ التي كانتْ تُوجد في
جانبِ الجيشِ الإسلاميِّ، واختار لمعسكرِهِ موضعاً مرتفعاً يحتمي به - إذا
نزلت الهزيمةُ بالمسلمين -ولا يلتجئ إلى الفرارِ، حَتَّى يتعرَّضَ للوقوعِ
في قبضةِ الأعداءِ المطاردينَ وأسرهم، ويلحق مع ذلك خسائر فادحة بأعدائه إن
أرادوا احتلالَ معسكرِهِ وتقدَّمُوا إليه،وألجأ أعداءَهُ إلى قبولِ موضعٍ
منخفضٍ يصعبُ عليهم جداً أنْ يحصلوا على شيءٍ من فوائدِ الفتحِ إنْ كانتِ
الغَلَبةُ لهم، ويصعب عليهم الإفلاتُ من المسلمينَ المطاردين إن كانت
الغلبة للمسلمين، كما أنه عوَّضَ النَّقصَ العدديَّ في رجالِهِ باختيارِ
نُخْبةٍ مُمتازةٍ من أصحابِهِ الشُّجعانِ البارزينَ. وهكذا تَمَّتْ
تعبئةُ الجيشِ النَّبويِّ صباحَ يومِ السَّبتِ السابع من شهر شوال سنة
3هـ.
الرَّسُولُ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-ينفثُ رُوحَ البسالةِ في الجيشِ :
ونَهَى الرَّسُولُ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وسَلَّمَ-النَّاسَ عن الأخذِ في القتال حَتَّى يأمرَهُم،وظَاهَرَ بين
دِرْعينِ، وحَرَّضَ أصحابَهُ على القتالِ، وحَضَّهم على المصابرةِ والجلادِ
عندَ اللِّقاءِ،وأخذَ ينفثُ رُوحَ الحماسةِ والبسالةِ في أصحابِهِ حَتَّى
جَرَّدَ سيفاً باتِراً و نادى أصحابَهُ:"مَنْ يأخذُ هذا السَّيفَ بحقِّهِ؟
"،فَقَامَ إليهِ رجالٌ ليأخذُوه-منهم؛على بن أبي طالب،والزُّبير بن
العوَّام،وعمر بن الخطاب-حَتَّى قام إليه أبو دُجَانةَ - سِمَاك بن
خَرَشَة-،فقال: وما حَقُّهُ,يا رسولَ اللهِ؟قالَ:" أنْ تضربَ به وجوه العدوِّ حَتَّىينحني".
قال: أنا آخذُهُ بحقِّهِ,يا رسولَ اللهِ،فأعطاه إيَّاهُ.وكان أبو
دُجَانَةَ رَجُلاً شُجاعاً يختالُ عندَ الحربِ،وكانت له عصابةٌ حمراء إذا
اعتصبَ بها؛علم الناسُ أنه سيُقاتل حَتَّى الموت.فلمَّا أخذ السَّيفَ
عَصَبَ رأسَهُ بتلكَ العصابةِ، وجَعَلَ يتبخترُ بين الصَّفينِ، وحينئذٍ
قَالَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-:" إنها لمشيةٌ يُبغضها اللهُ إلا في مثلِ هذا الموطنِ". رواه الحاكم في المستدرك(3/256) والهيثمي في مجمع الزوائد(6/109)، والبيهقي في السنن الكبرى(9/155).
تعبئـةُ الجيشِ المكيّ:ِ
أما المشركون فعبَّئُوا جيشَهم حسب نظامِ الصُّفوفِ،
فكانت القيادةُ العامةُ إلى أبي سفيان صخر بن حرب الذي تمركزَ في قلبِ
الجيشِ،وجعلُوا على الميمنةِ خالدَ بن الوليدِ-وكان إذ ذاكَ مُشرِكاً-وعلى
الميسرةِ عكرمةُ بنُ أبي جهلٍ،وعلى المشاة صفوانُ ابن أُمية،وعلى رُمَاةِ
النَّبلِ عبدُ اللهِ بنُ أبي ربيعةَ.
أما اللِّواءُ فكان إلى مفرزةٍ من بني عبدِ
الدَّارِ،وقد كان ذلك منصبهم منذ أنِ اقتسمتْ بنُو عبد مناف المناصبَ التي
ورثُوها مِنْ قُصي بن كِلَاب,وكانَ لا يُمكن لأحدٍ أنْ يُنازِعَهُم في
ذلكَ؛ تقيداً بالتَّقاليدِ التي ورثوها كابراً عن كابر،بيد أنَّ القائدَ
العام-أبا سفيان-ذَكَّرهم بما أصاب قُرَيشاً يومَ بدرٍ حين أُسِرَ حاملُ
لوائِهم النَّضرُ بن الحارثِ،وقال لهم-ليستفز غضبهم ويُثير حميتهم-:يا
بني عبد الدار،قد وليتم لواءَنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتُم، وإنما يُؤتى
الناسُ مِنْ قبلِ راياتِهم،وإذا زالتْ زالُوا،فإمَّا أنْ تكفونا
لواءَنا،وإمَّا أنْ تُخلُّوا بيننا وبينه فنكفيكموه.
ونجح أبو سفيان في هدفِهِ، فقد غضبَ بنو عبدِ الدَّارِ
لقولِ أبي سفيان أشدَّ الغضبِ، وهمُّوا به,وتوعَّدُوه وقالوا له: نحن
نسلم إليك لواءنا ؟ستعلم غداً إذا التقينا كيف نصنع؟وقد ثبتوا عند
احتدامِ المعركة حَتَّى أُبيدوا عن بَكْرةِ أبيهم.
مناوراتٌ سياسيةٌ مِنْ قِبَلِ قُريشٍ:
وقُبيل نُشُوبِ المعركةِ حاولتْ قريشٌ إيقاعَ الفُرقةِ
والنِّزاعِ داخل صُفُوفِ المسلمين. فقد أرسل أبو سفيان إلى الأنصار يقولُ
لهم: خَلُّوا بيننا وبين ابنِ عَمِّنا ؛فننصرف عنكم، ،فلا حاجةَ لنا إلى
قتالِكم ؟ ولكن أين هذه المحاولةُ أمام الإيمانِ الذي لا تقومُ له
الجبالُ، فقد ردَّ عليه الأنصارُ رَدَّاً عَنِيفاً، وأسمعُوه ما يكره.
واقتربتْ ساعةُ الصِّفرِ،وتدانتِ الفئتانِ،فقامت قريشٌ بمحاولةٍ أُخرى
لنفسِ الغَرَضِ، فقد خرج إلى الأنصارِ عميلٌ خائنٌ يُدعى أبا عامر
الفاسق-واسمه عبد عمرو بن صَيفِي-,وكان يُسمَّى الرَّاهبَ، فسمَّاهُ رسولُ
اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-الفاسقَ،وكانَ رأسَ الأوسِ في
الجاهليةِ،فلمَّا جَاءَ الإسلامُ شَرِقَ به، وجَاهَرَ رَسُولُ اللهِ-صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-بالعَدَاوةِ،فَخَرَجَ من المدينةِ,وذَهَبَ إلى
قُريشٍ يُؤلِّبُهم على رسولِ اللهِ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وسَلَّمَ-ويحضُّهم على قتالِهِ،ووعدهم بأنَّ قومَهُ إذا رأوه
أطاعُوه،ومالُوا معه, فكان أولَ مَن خَرَج إلى المسلمين في الأحابيشِ
وعُبْدَان أهل مكة. فَنَادَى قومَهُ وتعرَّفَ عليهم،وقَالَ: يا معشرَ
الأوسِ، أنا أبو عامر. فقالُوا: لا أنعم اللهُ بك عيناً يا فاسق.
فقال: لقد أصابَ قومي بعدي شَرٌّ. ولمَّا بَدَأَ القتالُ,قاتلَهم
قتالاً شديداً وراضخهم بالحجارة.
وهكذا فشلتْ قُريشٌ في محاولتِها الثَّانية للتفريقِ
بين صُفُوفِ أهلِ الإيمانِ. ويدلُّ عملُهم هذا على ما كان يُسيطرُ عليهم
من خوفِ المسلمينَ وهيبتِهم، مع كثرتِهم وتفوقهم في العددِ والعُدَّةِ.
جهودُ نسوةِ قُريشٍ في التَّحميسِ :
وقامت نسوةُ قُرَيشٍ بنصيبهنَّ من المشاركة في المعركة،
تقودهنَّ هندُ بنتُ عتبةٍ زوجةِ أبي سُفيانَ، فكُنَّ يتجولنَ في
الصُّفوفِ، ويضربن بالدُّفوف؛ يستنهضن الرجال،ويُحرِّضْنَ على القتالِ،
ويُثرن حفائظَ الأبطالِ،ويُحرِّكْنَ مشاعرَ أهلِ الطِّعانِ والضِّرابِ
والنِّضالِ،فتارةً يُخاطبن أهلَ اللِّواءِ فيقلن:
ويـهـا حُمَاة الأدبـــار
وَيْها بني عبد الــدار
ضـرباً بكـل بتـــــار
وتارة يأززن قومهن على القتال وينشدن:
ونَفــْرِشِ النَّمـــارقْإن تُـقْبلُـوا نُعَانـِــقْفــراقَ غيـرَ وَامِـِقْأو تُـدْبِـرُوا نُفـَــارِق
1 - ابن هشام (2/65-66).
2 - روى ذلك أحمد والطبراني والحاكم عن ابن عباس انظر فتح الباري (7/ 350).
3 - البخاري ، الفتح ، كتاب الجهاد والسير، باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب. رقم(3039).
تحول النتيجة في غزة أحدغلطة الرماة الفظيعة:
وبينما كان الجيش الإسلامي الصغير يسجل مرة أخري نصراً
ساحقاً على أهل مكة لم يكن أقل روعة من النصر الذي اكتسبه يوم بدر، وقعت
من أغلبية فصيلة الرماة غلطة فظيعة قلبت الوضع تماماً، وأدت إلى إلحاق
الخسائر الفادحة بالمسلمين، وكادت تكون سبباً في مقتل النَّبيّ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- ، وقد تركت أسوأ أثر على سمعتهم، وعلى الهيبة
التي كانوا يتمتعون بها بعد بدر.
لقد أسلفنا نصوص الأوامر الشديدة التي أصدرها رسول
الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- إلى هؤلاء الرماة، بلزومهم موقفهم
من الجبل في كل حال من النصر أو الهزيمة، ولكن على رغم هذه الأوامر المشددة
لما رأي هؤلاء الرماة أن المسلمين ينتهبون غنائم العدو غلبت عليهم أثارة
من حب الدنيا، فقال بعضهم لبعض: الغنيمة الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما
تنتظرون؟! . أما قائدهم عبد الله بن جبير، فقد ذكرهم أوامر الرسول -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، وقال: أنسيتم ما قال لكم رسول الله -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-؟! . ولكن الأغلبية الساحقة لم تلق لهذا التذكير
بالاً، وقالت: والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة (1). ثـم غـادر
أربعون رجلاً أو أكثر هؤلاء الرماة مواقعهم من الجبل، والتحقوا بسَوَاد
الجيش ليشاركـوه فـي جمع الغنائم. وهكذا خلت ظهور المسلمين، ولم يبق فيها
إلا ابن جبير وتسعة أو أقل من أصحابه والتزموا مواقفهم مصممين على البقاء
حَتَّى يؤذن لهم أو يبادوا.
خالد بن الوليد يقوم بخطة تطويق الجيشالإسلامي:
وانتهز خالد بن الوليد هذه الفرصة الذهبية، فكرَّ
بسرعة خاطفة إلى جبل الرماة ليدور من خلفه إلى مؤخرة الجيش الإسلامي، فلم
يلبث أن أباد عبد الله بن جبير وأصحابه إلا البعض الذين لحقوا بالمسلمين،
ثم انقض على المسلمين من خلفهم، وصاح فرسانه صيحة عرف بها المشركون
المنهزمون بالتطور الجديد فانقلبوا على المسلمين، وأسرعت امرأة منهم - وهي
عمرة بنت علقمة الحارثية - فرفعت لواء المشركين المطروح على التراب، فالتف
حوله المشركون ، وتنادى بعضهم بعضاً، حَتَّى اجتمعوا على المسلمين، وثبتوا
للقتال، وأحيط المسلمون من الأمام والخلف، ووقعوا بين شِقَّي الرحى.
موقف الرسول الباسل إزاء عملالتطويق:
وكان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-
حينئذ في مفرزة صغيرة - تسعة نفر من أصحابه(2)- في مؤخرة المسلمين(3)، كان
يرقب مجالدة المسلمين ومطاردتهم المشركين؛ إذ بوغت بفرسان خالد مباغتة
كاملة، فكان أمامه طريقان: إما أن ينجو - بالسرعة - بنفسه وبأصحابه
التسعة إلى ملجأ مأمون، ويترك جيشه المطوق إلى مصيره المقدور، وإما أن
يخاطر بنفسه فيدعو أصحابه ليجمعهم حوله، ويتخذ بهم جبهة قوية يشق بها
الطريق لجيشه المطوق إلى هضاب أحد.
وهناك تجلت عبقرية الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- وشجاعته المنقطعة النظير، فقد رفع صوته ينادي أصحابه: " إليَّ عباد الله "، رواه الطبري في تفسيره (4/112).
وهو يعرف أن المشركينسوف يسمعون صوته قبل أن يسمعه المسلمون، ولكنه ناداهم ودعاهم مخاطراً بنفسه في هذا الظرف الدقيق.
وفعلاً فقد علم به المشركون فخلصوا إليه، قبل أن يصل إليه المسلمون.
تبدد المسلمين في الموقف:
أما المسلمون فلما وقعوا في التطويق طار صواب طائفة
منهم، فلم تكن تهمها إلا أنفسها، فقد أخذت طريق الفرار، وتركت ساحة القتال،
وهي لا تدري ماذا وراءها ؟ وفرَّ من هذه الطائفة بعضهم إلى المدينة
حَتَّى دخلها، وانطلق بعضهم إلى ما فوق الجبل.
ورجعت طائفة أخرى فاختلطت بالمشركين، والتبس العسكران
فلم يتميزا، فوقع القتل في المسلمين بعضهم من بعض. روي البخاري عن عائشة
قالت: لما كان يوم أحد هزم المشركون هزيمة بينة، فصاح إبليس: أي عباد
الله أخراكم - أي احترزوا من ورائكم - فرجعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم،
فبصر حذيفة، فإذا هو بأبيه اليمان، فقال: أي عباد الله أبي أبي.
قالت: فو الله ما احتجزوا عنه حَتَّى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله
لكم. قال عروة: فو الله ما زالت في حذيفة بقية خير حَتَّى لحق بالله
(4).
وهذه الطائفة حدث داخل صفوفها ارتباك شديد، وعمتها
الفوضى، وتاه منها الكثيرون؛ لا يدرون أين يتوجهون، وبينما هم كذلك إذ
سمعوا صائحاً يصيح: إن محمداً قد قتل، فطارت بقية صوابهم، وانهارت الروح
المعنوية أو كادت تنهار في نفوس كثير من أفرادها، فتوقف من توقف منهم عن
القتال، وألقي بأسلحته مستكيناً، وفكر آخرون في الاتصال بعبد الله بن أبي -
رأس المنافقين - ليأخذ لهم الأمان من أبي سفيان. ومر بهؤلاء أنس بن
النضر، وقد ألقوا ما بأيديهم فقال: ما تنتظرون ؟ فقالوا: قتل رسول
الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، قال: ما تصنعون بالحياة بعده ؟
قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وسَلَّمَ-، ثم قال: اللّهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين،
وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، يعني المشركين، ثم تقدم فلقيه سعد بن معاذ،
فقال: أين يا أبا عمر ؟ فقال أنس: واها لريح الجنة يا سعد، إني أجده
دون أحد، ثم مضي فقاتل القوم حَتَّى قتل، فما عرف حَتَّى عرفته أخته - بعد
نهاية المعركة -ببنانه، وبه بضع وثمانون ما بين طعنة برمح، وضربة بسيف،
ورمية بسهم (5).
ونادى ثابت بن الدَحْدَاح قومه فقال: يا معشر
الأنصار، إن كان محمد قد قتل، فإن الله حي لا يموت، قاتلوا على دينكم، فإن
الله مظفركم وناصركم. فنهض إليه نفر من الأنصار، فحمل بهم على كتيبة
فرسان خالد فما زال يقاتلهم حَتَّى قتله خالد بالرمح، وقتل أصحابه (6).
ومر رجل من المهاجرين برجل من الأنصار، وهو يتَشَحَّطُ
في دمه، فقال: يا فلان، أشعرت أن محمداً قد قتل ؟ فقال الأنصاري: إن
كان محمد قد قتل فقد بَلَّغ، فقاتلوا عن دينكم (7).
وبمثل هذا الاستبسال والتشجيع عادت إلى جنود المسلمين
روحهم المعنوية، ورجع إليهم رشدهم وصوابهم، فعدلوا عن فكرة الاستسلام أو
الاتصال بابن أبي، وأخذوا سلاحهم، يهاجمون تيارات المشركين، وهم يحاولون شق
الطريق إلى مقر القيادة، وقد بلغهم أن خبر مقتل النَّبيّ -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وسَلَّمَ- كذب مُخْتَلَق، فزادهم ذلك قوة على قوتهم، فنجحوا في
الإفلات عن التطويق، وفي التجمع حول مركز منيع، بعد أن باشروا القتال
المرير، وجالدوا بضراوة بالغة.
وكانت هناك طائفة ثالثة لم يكن يهمهم إلا رسول الله
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-. فقد كرت هذه الطائفة إلى رسول الله
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، وعمل التطويق في بدايته، وفى مقدمة
هؤلاء أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وغيرهم -y- كانوا
في مقدمة المقاتلين، فلما أحسوا بالخطر على ذاته الشريفة - عليه الصلاة
والسلام والتحية-صاروا في مقدمة المدافعين.
احتدام القتال حول رسول الله:
وبينما كانت تلك الطوائف تتلقي أواصر التطويق، وتطحن
بين شِقَّي رَحَي المشركين، كان العراك محتدماً حول رسول الله -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ-، وقد ذكرنا أن المشركين لما بدءوا عمل التطويق لم
يكن مع رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- إلا تسعة نفر، فلما
نادى المسلمين: " هلموا إلي، أنا رسول الله "، ذكره ابن كثير في تفسيره (4/345). سمع صوتهالمشركون وعرفوه، فكروا إليه وهاجموه، ومالوا إليه بثقلهم قبل
أن يرجع إليه أحد من جيش المسلمين، فجري بين المشركين وبين هؤلاء النفر
التسعة من الصحابة عراك عنيف ظهرت فيه نوادر الحب والتفاني والبسالة
والبطولة.
روى مسلم عن أنس بن مالك أن رسول الله -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وسَلَّمَ- أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار ورجلين من قريش، فلما
رهقوه قال: " من يردهم عنا ولهالجنة، أو هو رفيقي في الجنة ؟!" . فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حَتَّى قتل ثم رهقوه أيضاً فقال: " من يردهم عنا وله الجنة، أو هو رفيقي في الجنة
؟ ". فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حَتَّى قتل، فلم يزل كذلك حَتَّى قتل
السبعة، فقال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ- لصاحبيه - أي
القرشيين: " ما أنصفنا أصحابنا " ( . وكان آخر هؤلاء السبعة هو عمارة بن يزيد بن السَّكَن، قاتل حَتَّى أثبتته الجراحة فسقط (9).